فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (54):

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}
{فاستخف قَوْمَهُ} فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها، ومعنى الخفة السرعة لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محمودًا وفي نسبته ذلك للقوم تجوز {فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرهم به {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي.

.تفسير الآية رقم (55):

{فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}
{فَلَمَّا ءاسَفُونَا} أي أسخطونا كما قال علي كرم تعالى وجهه. وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم. والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل.
وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه: إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبة تعالى، وعلى ذلك قال عز وجل: «من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة» وقال سبحانه: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وعليه قيل: المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه، والسلف لا يؤولون ويقولون: الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل.
وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معًا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبًا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنًا، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف من نازع من يقوى عليه أظهره غيظًا وغضبًا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنًا وجزعًا، وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب

انتهى، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف.
{انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} في اليم.

.تفسير الآية رقم (56):

{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}
{فجعلناهم سَلَفًا} قال ابن عباس. وزيد بن أسلم. وقتادة أي متقدمين إلى النار.
وقال غير واحد: قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم، والكلام على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير، وقيل: جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلًا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضًا.
وقرأ أبو عبد الله. وأصحابه. وسعيد بن عياش. والأعمش. والأعرج. وطلحة. وحمزة والكسائي {سَلَفًا} بضمتين جمع سليف كفريق لفظًا ومعنى، سمع القاسم بن معن العرب تقول: مضى سليف من الناس يعنون فريقًا، منهم وقيل: جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. ومجاهد. والأعرج. أيضًا سلفًا بضم ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفًا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة عنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبح والجمع سلفان كصردان ويضم.
{وَمَثَلًا لّلاْخِرِينَ} أي عظة لهم، والمراد بهم الكفار بعدهم، والجار متعلق على التنازع بسلفًا ومثلًا، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال؛ ومعنى كونهم مثلًا للكفار أن يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلًا} إلخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم، فقد روي أن عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعه يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيًا وعبدًا من عباد الله تعالى صالحًا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلًا وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحًا وجدلًا، والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل عنى المثال أي جعله مقياسًا وشاهدًا على إبطال قوله عليه الصلاة والسلام: إن آلهتهم من حصب جهنم، وجعل عيسى عليه السلام نفسه مثلًا من باب «الحج عرفة».
وقرأ أبو جعفر. والأعرج. والنخعي. وأبو رجاء. وابن وثاب. وابن عامر. ونافع. والكسائي {يَصِدُّونَ} بضم الصاد من الصدود، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وهو قبل بلوغه تواترها، والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية، وقيل: المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض.
وقال الكسائي. والفراء: يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان عنى واحد مثل {يعرشون} و{يعرشون} [الأعراف: 137] ومعناهما يضجون، وجوز أن يكون يعرضون.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
{وَقَالُواْ} تمهيدًا لما بنوا عليه من الباطل المموه مما يغتر به السفهاء {ءالِهَتِنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أي ظاهر عندك أن عيسى عليه السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وأيانا فيها، وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الاستفهام والهمزة الأصلية؛ وسهل باقي السبعة الثانية بين بين، وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر، والظاهر أنه على حذف همزة الاستفهام، وقوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} إبطال لباطلهم إجمالًا اكتفاءً بما فصل في قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] وتنبيهًا على أنه مما لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمى ويصم أي ما ضربوا لك ذلك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج، فجدلًا منتصب على أنه مفعول لأجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين، وقرأ ابن مقسم {جدالًا} بكسر الجيم وألف بعد الدال، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (59):

{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}
{أَجْرٍ إِنْ هُوَ} أي ما عيسى ابن مريم {إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضًا كان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: {وجعلناه مَثَلًا} أي أمرًا عجيبًا حقيقًا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة {لّبَنِى إسراءيل} حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطًا وتفريطًا، وقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (60):

{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)}
{وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا} إلخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا {مّنكُمْ} يا رجال {مَلَئِكَةٌ} كما ولدنا عيسى من غير أب {فِى الأرض يَخْلُفُونَ} أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفًا ونسلًا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدًا كما تخلق إبداعًا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة، وجوز أن يكون معنى لجعلنا إلخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و{مَلَئِكَةٌ} مفعول ثان أو حال، وقيل: من للبدل كما في قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38] وقوله:
ولم تذق من البقول الفستقا

أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل: لا مانع من قصدهما معًا نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولًا.
وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ} [الزخرف: 59] إلخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98] إلخ وإن تقريره إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قومًا أهلًا للنار وآخرين أهلًا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدًا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] اه.
وعلى ما ذكرنا أن الكلام في ابطال قد تم عند قوله تعالى: {خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء} إلخ لنفي الاعتراض ليس بشيء. وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا، وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] الآية أو نزلت هذه الآية، وأنكر بعضهم السكوت، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام: خصمتك رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام: أنت قلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ}؟ قال: نعم قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] وهذا أثبت من الخبر الذي قبله. وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا إلخ، وقوله عليه الصلاة والسلام: هو لكم إلخ بأنه ليس بثبت.
وذكر من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملًا بما تقتضيه كلمة {مَا} لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم عزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: بل هم يعبدون الشيطان كما نطق به قوله تعالى: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر. وفي الدر المنثور أخرج الإمام أحمد. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله تعالى صالحًا فإن كنت صادقًا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] إلخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات، وقيل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميًا ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى} الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقًا بشرًا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم: {أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلهًا مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم قوله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالدًا وإبداعًا فلا يصلح القسمان للإلهية. وفي رواية عن ابن عباس. وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى} الآية قالت قريش: ما أراد محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى.
ومعنى {يصدون} [الزخرف: 57] يضجون ويضجرون، والضمير في {أَمْ} [الزخرف: 58] هو لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء} إلخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله عليه وسلم عبوديته أو كيف يتوهم الرضا عبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضًا عن درجة المعبودية بقوله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاء} إلخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: {أَمْ هُوَ} مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ} [الزخرف: 59] وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله عليه وسلم، ولعل الرواية عن الحبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا: ما قلنا بدعًا من القول ولا فعلنا منكرًا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولًا وفعلًا حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء} إلخ عليه كما في الوجه الثاني.